أيلول... ورقة وطن في مهبّ الخريف
خديجة رياض حكيم

خبيرة قانونية في الشأن الدولي والبترولي

Friday, 12-Sep-2025 07:26

أيلول في لبنان ليس مجرد فصلٍ يتناوب مع الفصول. إنّه زمنٌ تتواطأ فيه الطبيعة مع السياسة، ليُعاد على مسامع اللبنانيين درس الخسارة والفقدان، كأنّ البلاد محكوم عليها أن تعيش الخريف دائماً، وأن تُدفن في ذاكرة أوراقها اليابسة دون أن تبلغ ربيعاً جديداً.

في وطنٍ يكتب مأساته على جدران الوقت، يغدو أيلول أكثر من شهرٍ في الروزنامة، إنّه جرحٌ مفتوح في جسد السياسة وذاكرة الناس. دخانٌ يتسرّب من نوافذ الوعود المكسورة، وصدى انفجاراتٍ يتردّد في أروقة المجالس كما في أزقّة الفقراء. هو خوفٌ يسكن العيون، وأملٌ هشّ يتدلّى كأوراق خريفٍ تترنّح قبل السقوط. في هذا الأيلول، تختلط دمعة الأم بصمت الشهداء، ويظلّ الوطن معلّقاً بين ما يُقال على المنابر وما يُعاش في البيوت.

 

في العام الماضي، حين دخل أيلول مثقلاً بالحرب، لم يسقط الورق وحده. سقطت معه الحجارة والزجاج والأحلام المؤجَّلة. كان المشهد كأنّ الطبيعة قرّرت أن تكتب معاناة الناس بلغتها الخاصة: أوراقٌ صفراء تختلط بالدم وركام منازل، ونسيمٌ يختنق بدخان، وخطوات أطفال تُدفن تحت غبار الشوارع. لم يكن الخريف موسم صمتٍ رتيب، بل موسم أصواتٍ لا تُمحى: هدير الطائرات، صفير القذائف، وصدى الصرخات التي لا تجد من يسمعها.

 

فيروز، التي أنشدت يوماً «ورقو الأصفر... شهر أيلول ذكّرني فيك»، لم تكن تدري أنّ الأغنية ستتحوّل مرثية وطنٍ كامل. الورق الذي وصفته بالذهب لم يعد يلمع، بل صار رماداً هشّاً يتطاير مع الريح. صار تحت الشبابيك لا ورقاً فقط، بل أحلاماً منكوبة، ووعوداً محطّمة، وطمأنينة أمهاتٍ أُخذت منهن إلى غير رجعة. الأغنية التي كانت مرثية غياب حبيب صارت نشيداً لغياب وطن.

 

ثم جاء الخامس من أيلول. جلس الوزراء على طاولتهم، بربطات أعناقهم ولغة بياناتهم المعلبة، وكأنّ شيئاً لم يحدث. جلسوا كأنّ الدخان الذي يملأ السماء ليس من بيوتٍ مهدّمة، وكأنّ أصوات الناس ليست صرخات بل صدى بعيد. خرجوا بمقررات باردة، وألقوا على الناس ورقة صفراء جديدة في أرشيف الانتظار الطويل. كانت جلسة الخامس من أيلول تكراراً للزمن نفسه: اجتماع بلا روح، قرار بلا حياة، نسخة مشوّهة عن ورقة يابسة تسقط على رصيفٍ بارد.

 

وعلى شاشة التلفزة، كان اللبناني يراقب هذا العبث. يجلس بعيون متعبة أمام مسرحية مكرّرة: امرأة تبكي وجه ابنها الذي غاب، شيخ يراقب وعود التنمية بينما يعيش بلا كهرباء ولا ماء، شاب يرى خلاصه وحريته مرسومين على ورقة سفر، لا في تراب وطنه.

 

حتى الأطفال لم يعودوا في منأى عن هذا الخراب. طفل صغير في حيّ جنوبي يسير إلى مدرسته مردداً: «الحمدلله ما صابتنا نحنا»! صار يميّز أصوات الطائرات كما يميّز أصوات العصافير، يعرف رائحة القصف كما يعرف رائحة الخبز في الصباح. حقيبته المدرسية لم تعد تحوي دفاتر وألواناً فقط، بل صدى الانفجارات وصور البيوت المهدّمة. كان يمشي إلى مدرسته ولا يعرف إن كان الغد سيمنحه طريقاً إليها، أو إن كان سيدخل صفه ليكتشف أنّ أحد رفاقه صار يتيماً أو شهيداً. صار الدرس الأول في حياته درساً في النجاة، لا في الحساب أو اللغة.

 

أيلول في لبنان صار مرآةً للخذلان: الطبيعة تسقط أوراقها لتجدد الحياة، أما السياسة فتسقط أوراقها لتطيل عمر الخذلان. كل ورقة تتساقط من شجرة تحمل وعداً بربيع، وكل ورقة تسقط من طاولة مجلس الوزراء تحمل وجه المجهول.

 

ومع ذلك، ثمة ما يعاند الفناء. تحت التراب، في صمتٍ عميق، تبقى الجذور. يعرف اللبناني أنّ سقوط الأوراق لا يعني موت الشجرة، وأنّ الخريف مهما طال لا يستطيع أن يدفن الربيع. يعرف أنّ الحنين فعل مقاومة، وأنّ الصبر سلاح خفي يحمي الذاكرة من الانطفاء. فإيمان اللبناني العميق بالحياة متجذّر في يقينه الشعبي بأنّ «ما في شي بيضل ع حاله».

 

سيأتي يوم، تُطوى فيه دفاتر الانتظار الطويل، وينهض الوطن من تحت الركام كجذعٍ أخضر يعلن عودته إلى الحياة. يومها، لن تكون أغنية فيروز جرس حزن، بل ترنيمة خلاص. وسيدرك اللبناني أنّ أيلول الذي أرادوه زمناً للانكسار كان في الحقيقة زمناً للقيامة، وأنّ الورق الأصفر الذي غطّى الأرصفة لم يكن موتاً، بل وعداً بالحياة.

الأكثر قراءة